إعـــــــلان

تقليص

للاشتراك في (قناة العلم والإيمان): واتساب - يوتيوب

شاهد أكثر
شاهد أقل

فقه الاحزان

تقليص
X
  •  
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • فقه الاحزان

    الفصل الأول: آداب المصاب صاحب المصيبة
    فقد المؤمن


    ورد عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال: "إذا مات المؤمن بكت عليه بقاع الأرض التي كان يَعْبُدُ الله عزَّ وجلَّ فيها والباب الذي كان يَصْعَدُ منه عمله و موضع سجوده"5.

    وفي رواية أخرى عنه عليه السلام أنه قال: "ما من مؤمن يموت في غُرْبَةٍ من الأرض فيغيب عنه بواكيه إلا بكته بقاع الأرض التي كان يعبد الله عليها، وبكته أثوابه، وبكته أبواب السماء التي كان يصعد بها عمله، وبكاه الملكان الموكلان به"6.

    ورُوِيَ عن رسول الله صلى الله عليه واله وسلم أنه قال: "ما من مؤمن إلا وله بابٌ يَصعدَ منه عمله وباب يَنزل منه رزقه فإذا مات بكيا عليه، وذلك قول الله عزَّ وجلَّ ﴿فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاء وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ﴾ 7"8.

    و عن جعفر بن محمد الصادق عن آبائه عليهم السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم : "ما من مؤمن يموت في غربته إلا بكت عليه الملائكة رحمةً له حيث قلت بواكيه"9.

    11

    البكاء على الميت


    يقول الشهيد الثاني قدس سره : "إعلم أن البكاء بمجرده غير منافٍ للصبر ولا للرضا بالقضاء، وإنما هو طبيعة بشرية، وجِبِلَّة إنسانية، ورحمة رحيميَّةٌ أو حبيبيَّةٌ، فلا حرج في إبرازها ولا ضرر في إخراجها، ما لم تشتمل على أحوالٍ تؤذِنُ بالسَّخط وتنبئُ عن الجزع وتَذْهَبُ بالأجر، من شقِّ الثوب، ولطم الوجه وضرب الفخذ وغيرها.

    وقد ورد البكاء في فقدان الأحبة عن النبي صلى الله عليه وآله و سلم ، ومن قبله من لدن آدم عليه السلام، وبعده من آله وأصحابه مع رضاهم وصبرهم وثباتهم"10.

    ففي الرواية عن جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنه قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم بيد عبد الرحمن بن عوف، فأتى إبراهيم وهو يجود بنفسه، فوضعه في حجره، فقال له: "يا بُنيَّ، إني لا أملك لك من الله تعالى شيئاً وذرفت عيناه، فقال له عبد الرحمن: يا رسول الله تبكي، أولم تنهَ عن البكاء؟ فقال صلى الله عليه وآله و سلم : إنما نهيت عن النوح، عن صوتين أحمقين فاجرين: صوت عند نغمة لعب ولهو ومزامير شيطان، وصوت عند مصيبة، خمشُ وجوه وشقُّ

    12

    جيوب ورنة شيطان، إنما هذه رحمة، ومن لا يَرحَم لا يُرحم، ولولا أنه أمرُ حق ووعدُ صدقٍ وسبيلٌ نأتيه وأن آخرنا سيلحق أولنا، لحزنا عليك حزناً أشد من هذا، وإنا بك لمحزونون، تبكي العين ويحزن القلب، ولا نقول ما يُسْخِطُ الرَّب عز وجل"11.

    وفي رواية أخرى: انكسفت الشمس يوم مات إبراهيم بن رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم -إلى أن قال الراوي- ودمعت عيناه، فقالوا يا رسول الله تبكي وأنت رسول الله، فقال: "إنَّما أنا بشر، تدمع العين ويفجع القلب ولا نقول ما يُسْخِطُ الرَّب، يا إبراهيم إنَّا بك لمحزونون"، وقال صلى الله عليه وآله و سلم : "يوم مات إبراهيم ما كان من حزن في القلب أو في العين، فإنما هو رحمة، وما كان من حزن باللسان وباليد، فهو من الشيطان" 12.

    فالبكاء حالة إنسانية ومشاعر نبيلة تُنْبِىءُ عن محبَّة الفقيد والأسى على فراقه, والأكمل أن تُطعم بالمشاعر الدينيَّة ليستحقّ المرء فيها الأجر، كالحزن على ما يصيب الميت من هول المُطَّلع، وما يلقاه في عالم البرزخ والحساب.

    فالبكاء الحقيقيّ ينبغي أن يكون على حالة الميت, لا على فقده, فإن الميت تنتظره أهوالٌ عظيمة, ومواقف مهولة, من هول

    13

    المطلع إلى حساب القبر وضغطته, وما يلاقي من أعماله في عالم البرزخ, فمن كانت حالته أنه قادم على هذه الأمور, فهو الذي ينبغي البكاء عليه لا على مجرد فقده, ولنِعْمَ ما فعل أبو ذر رضي الله عنه لما مات ذرٌّ ابنه، فقد مسح أبو ذر القبر بيده, ثم قال:"... أما والله ما بي فقدُك, وما عليَّ من غضاضة, ومالي إلى أحدٍ سوى الله من حاجة, ولولا هولُ المُطَّلع لسرني أن أكون مكانك, ولقد شغلني الحزنُ لكَ عنِ الحزنِ عليكَ, والله ما بكيتُ لك ولكن بكيتُ عليك, فليت شعري ماذا قلت، وماذا قيل لك، ثم قال رضي الله عنه: اللهمَّ إني قد وهبت له ما افترضتَ عليه من حقي، فهبْ له ما افترضت عليهِ من حقك، فأنت أحق بالجود مني"13.

    وخلاصة الأمر، إن البكاء على الميت والفقيد ليس عيباً, إلا أن الجزع والاعتراض على القضاء, والتصرفات الخارجة عن التأثر العاطفي الطبيعي هي التي منعها الشرع الأقدس, وستكون لنا وقفة تفصيلية عليها إن شاء الله تعالى.

    فضل الصبر على المصاب


    وحول أهمية الصبر في هذه المواقف، جاء عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال: "قد عجز من لم يُعد لكل بلاءٍ صبراً، ولكل نعمةٍ

    14

    شكراً، ولكل عسر يسرا، أصبر نفسك عند كل بلية ورزية في ولد، أو في مال فإن الله إنما يقبض عاريته أي ما أعاره لك وهبَته لِيَبْلُوَ شكركَ وصبرَكَ"14.

    وقال عليه السلام: "إن العبد يكون له عند ربِّه درجة لا يبلغها بعمله فيُبتلى في جسده، أو يُصابُ في ماله، أو يصاب في ولده، فإن هو صبرَ بلَّغه الله إياها"15.

    وعن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله و سلم : يقول الله عزَّ وجلَّ: ﴿إذا وجهت إلى عبدٍ من عبيدي مصيبة في بدنه، أو ماله، أو ولده ثم استقبل ذلك بصبر جميل استحييت منه يوم القيامة أن أنصُبَ لهُ ميزاناً أو أنشرَ له ديواناً﴾ 16.

    من يستحقّ الأجر في المصاب


    قرنت الروايات الشريفة، الأجر في المصائب بالصبر، فمن يستحق الأجر هو الذي يتحلى بالصبر على المصاب، فعن رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم : "ألا أَعْجَبَكُمْ إنَّ المؤمن إذا أصاب خيراً حَمِدَ الله وشكر، وإذا أصابته مصيبة حَمِدَ الله وصبر، فالمؤمنُ يؤجرُ في كل شيء حتى اللقمة يرفعها إلى فيه"17.

    15

    وعن أبي بصير، قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: "إن الحرَّ حرٌّ على جميع أحواله، إن نابته نائبةٌ صبر لها، وإن تراكمت على المصائب لم تكسره، وإن أُسر، وقُهر، واستبدل باليسر عسراً، كما كان يوسف الصديق الأمين عليه السلام، لم يَضْرُر حريته أن استعبد وأُسر وقهر، ولم تَضْرُرْهُ ظلمة الجب ووحشته، وما ناله أن منَّ الله عليه، فجعلَ الجبارَ العاتي له عبداً بعد أن كان ملِكاً، فأرسله ورحم به أمة. وكذلك الصبرُ يعقِب خيراً، فاصبروا ووطنوا أنفسكم على الصبر تؤجروا"18.

    عِظَمُ الأجر على قَدْر المصاب


    ليستْ كلُّ المصائب النازلة على الناس بمستوى واحد، فإن المصيبة بفقد عزيز قد تختلف باختلاف الظروف التي فقد فيها, فقد يموت الإنسان الشيخ في فراش المرض، فتكون المصيبة في أهله وعياله يسيرة، وليست بالفظيعة. وقد يموت شابٌّ في مقتبل العمر، فتشعر بالحزن يعم سائر بلدته, وقد يكون الفقيد شهيداً في سوح النضال والجهاد، فيترك الأثر الكبير في المجتمع، ويفتخر باستشهاده وتضحيته بنفسه في سبيل الله والأمَّة, ولهذا فإن التسلية عن المصاب لا بد وأن تتنوع بحسَبِ نوع

    16

    المصاب الذي لحق بأصحاب العزاء.

    فبالصبر يثبُت الأجر، وبإيكال الأمر لله تعالى والتسليم إليه، والاسترجاع، كما في الرواية عن الإمام الصادق عليه السلام:"الضربُ على الفخذ عند المصيبة يُحْبِطُ الأجر، والصبر عند الصدمة الأولى أعظم، وعِظَمُ الأجرِ على قَدْرِ المصيبة، ومن استرجع بعد المصيبة، جدَّد الله له أجرها كيوم أصيب بها"19.

    والاسترجاع هو قول المؤمن: "إنا لله وإنا إليه راجعون".

    ولعل الأجدر بالمؤمن الحقيقي، المدرك لما في الصبر على المصائب من الأجر والثواب، أن يكون صابراً، راضياً، مسلماً بما ابتلاه الله تعالى به, لأنه في الحقيقة فرصة ثمينة للحصول على أعظم زاد يستعين به فيما لو كان حلول الأجل عليه, ففي الرواية عن الإمام الصادق عليه السلام: "لا تَعُدَّنَّ مصيبةً أعطيت عليها الصبر، واستوجبت عليها من الله ثواباً بمصيبة, إنما المصيبة التي يُحْرَمُ صاحبها أجرها وثوابها إذا لم يصبر عند نزولها" 20.

    الصلاة خير معين على الصبر


    وردت في الروايات الشريفة بعضُ الأعمال التي تعين المرء

    17

    حين نزول المصاب به منها الصلاة, ففي الرواية أن النبيّ صلى الله عليه وآله و سلم كان إذا نزل بأهله شدة أمرهم بالصلاة، ثم قرأ: ﴿وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا﴾21.

    وعن ابن عباس أنه نُعي إليه أخوه "قُثُمْ" وهو في سفر فاسترجع، ثم تنحى عن الطريق فأناخ، فصلى ركعتين أطال فيهما الجلوس، ثم قام يمشي إلى راحلته وهو يقول: ﴿وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ ﴾ 22 23.

    مقام الرضا


    بعد أن ذكرنا ما في الصبر من الثواب الجزيل والأجر الكبير, سنشير بشكل مختصر إلى مقام الرضا، وهو مرتبة أعظم من الصبر, وعن هذه المرتبة يقول الشهيد الثاني قدس سره{:

    "إعلم أن الرضا ثمرةُ المحبة لله، من أحب شيئاً أحب فِعله. والمحبة ثمرةُ المعرِفة، فإن من أحب شخصاً إنسانياً لاشتمالِه

    18

    على بعضِ صفات الكَمال أو نعوتِ الجَمال، يزدادُ حبهُ له كلما زاد به معرفةٍ، وله تصوراً. فمن نظر بعين بصيرته إلى جلالِ الله تعالى وكماله...أحبه، ﴿وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُباً للهِ﴾، ومتى أحبه استحسن كل أثرٍ صادر عنه، وهو يقتضي الرضا.

    ... واعلم أن الرضا فضيلةٌ عظيمة للإنسان، بل جماع أمر الفضائل يُرجع إليها، وقد نبه الله تعالى على فضله، وجعله مقروناً برضا الله تعالى وعلامة له، فقال: ﴿رَّضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْه﴾24 ﴿ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللهِ أَكْبَرُ﴾25, وهو نهاية الإحسان، وغاية الامتنان. وجعله النبي صلى الله عليه وآله و سلم دليلاً على الإيمان، حين سأل طائفةً من أصحابه:"ما أنتم؟ قالوا مؤمنون، فقال: ما علامة إيمانكم؟ قالوا: نصبر على البلاء، ونشكر عند الرخاء، ونرضى بمواقع القضاء، فقال:مؤمنون ورب الكعبة"26.

    وفي أخبار داوود عليه السلام: "ما لأوليائي والهَمَّ بالدنيا، إن الهم يُذْهِبُ حلاوة مناجاتي من قلوبهم، يا داوود، إن محبتي من أوليائي أن يكونوا روحانيين لا يغتمون"27.

    وقال الامام الصادق عليه السلام "إنا أهل بيت نجزع قبل المصيبة

    19

    فإذا أمر الله عزَّ وجلَّ رضينا بقضائِه وسلَّمنا لأمره، وليس لنا أن نكره ما أحب الله لنا"28.

    الضوابط الشرعيَّة في العزاء


    لقد حرص الإسلام على صيانة شخصية الإنسان المؤمن من الأعمال التي لا تليق، وتتناسب مع الإيمان بالله تعالى، والانضباط الخُلقي, كما ذكرنا سابقاً 29, ولذا فقد شَرَّع له الكثير من الأحكام التي تحفظ شخصيَّته، بما يتناسب مع التوجه الخلقي العامِ الذي أراده لعباده. ومن هنا كان لمجلس العزاء ضوابط شرعيَّة قد تصل في بعض الأحيان إلى درجة الإلزام, وبعضها الآخر من المستحبات. وسنطلُّ بشكلٍ عامٍ على أهمِّ الضوابطِ التي ينبغي أن تُراعى في أهل العزاء أنفسهم, وفي المعزِّين الذين يأتون لمواساتهم في مصابهم.

    ومن الأمور التي ينبغي الابتعاد عنها:

    1 - اليأس والقنوط:

    واليأس من رَوْحِ الله تعالى، هو عبارة عن الجزع الشديد الذي يصيب الإنسان مترافقاً مع كراهية المُصاب, واعتبار أن

    20

    رحمة الله تعالى انقطعت عنه, واليأس من رحمة الله ورَوْحِه مِن الكبائر 30, يقول الله سبحانه وتعالى:﴿وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ﴾31.

    وقد ورد في الحديث عن صفوان الجمال قال: شهدت الإمام الصادق عليه السلام و قد استقبل القبلة قبل التكبير وقال: "اللَّهم لا تؤيسني من رَوحك ولا تُقْنِطْني من رَحمتك ولا تُؤمني مكرك فإنه لا يأمن مكرَ الله إلا القوم الخاسرون"، قلت: جعلت فداك ما سمعت بهذا من أحد قبلك، فقال: إن من أكبر الكبائر عند الله اليأس من روح الله والقنوطُ من رحمة الله والأمن من مكر الله"32.

    وفي رواية أخرى عن رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم : "الفاجر الراجي لرحمة الله تعالى أقرب منها من العابد المُقنط"33.

    وعن أمير المؤمنين عليه السلام - في صفة المنافقين -: "حَسَدَةُ الرخاء، و مولِدو البلاء، ومُقْنِطو الرجاء"34.

    2 - التصرفات المؤذية للبدن:

    يقوم بعضُ الناس، وبدون قصد السوء، ببعض التصرفات

    21

    التي حرمها الشرع في المصائب، كنتف المرأة لشعرها، أو خدشها لوجهها، أو شقِّ الرجل لقميصه. فإن هذه التصرفات من المحرمات التي نهى الله تعالى عنها, بل وجعل عليها كفارة. وسنبين هذه التصرفات، وما يترتب عليها من الكفارات في الجدول التالي 35:


    التصرف الفاعل السبب الكفارة
    شق الثوب الرجل وفاة الزوجة والولد إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم مخيراً بينها، فإن عجز عن الجميع فصيام ثلاثة أيام.
    شق الثوب الرجل وفاة غير الزوجة والولد لا شيء
    خدش الوجه الرجل وفاة الزوجة والولد وغيرهما لا شيء
    نتف الشعر المرأة وفاة الزوج والولد وغيرهما إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم مخيراً بينها، فإن عجز عن الجميع فصيام ثلاثة أيام.
    خدش الوجه المرأة وفاة الزوج والولد وغيرهما إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم مخيراً بينها، فإن عجز عن الجميع فصيام ثلاثة أيام.
    22

    ملاحظة: المقصود بالخدش للوجه الذي تجب فيه الكفارة, هو الخدش الذي يحصل بسببه خروج الدم من الوجه لا مجرد الخدشة العادية 36.

    وقد جاء عن أهل بيت العصمة والطهارة عليهم السلامفي خصوص التصرفات المؤذية للبدن، وأمثالها: ما نقل عن رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم أنه قال في مرضه الذي قُبض فيه لفاطمة عليها السلام وهي تبكي وتقول "واكرباه لكربك يا أبتاه": "لا تشقي عَلَيَّ الجيب، ولا تخمشي عليَّ الوجه، ولا تدعي عَلَيَّ بالويل"37.

    وذكر الشهيد الثاني في مسكن الفؤاد عن أبي أمامة أن رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم لعن الخامشة وجهها، والشاقة جيبها، والداعية بالويل والثبور.

    وعن علي بن الحسين عليها السلام أنه قال: "إن الحسين بن علي عليها السلام قال لأخته زينب عليها السلام يا أختاه إني أقسمت عليك فأبري قسمي، لا تشقي علي جيباً، ولا تخمشي علي وجهاً، ولا تدْعي علَيَّ بالويل والثبور إذا أنا هلكت"38.

    3ـ الصراخ والعويل

    في الرواية عن أبي عبد الله عليه السلام قال: "لا ينبغي الصياح على الميت ولا شق الثياب"39.

    23

    بل إن بعض الروايات، وصفت الصراخ والدعاء بالويل وغيرها من التصرفات، بأنه هو الجزع المُحبِط للأجر، الذي وعد الله تعالى به الصابرين على المصيبة, فعن جابر عن أبي جعفر عليه السلام أنه قال: قلت له ما الجزع قال عليه السلام: "أشدُّ الجزع الصراخُ بالويل والعويل، ولطمُ الوجه والصدر، وجز الشعر من النواصي ومن أقام النواحة، فقد ترك الصبر، وأخذ في غير طريقه، ومن صبر واسترجع وحمِد الله عزَّ وجلَّ فقد رضيَ بما صنع الله، ووقع أجره على الله، ومن لم يفعل ذلك جرى عليه القضاء وهو ذميم، وأحبَط الله تعالى أجره" 40.

    ويظهر من الروايات، كراهة البكاء والنواح فعن أبي عبد الله عليه السلام في حديث قال: "كل الجزع والبكاء مكروه، ما سوى الجزع والبكاء لقتل الحسين عليه السلام"41.

    وقال رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم : "ثلاث من أعمال الجاهلية لا يزال الناس فيها حتى تقوم الساعة: الاستسقاء بالنجوم، والطعنُ في الأنساب والنياحة على الموتى"42.

    24

    واجبات أهل العزاء


    هنالك بعض الواجبات، التي تتعلق بمن يخص أهل المتوفى، تلحق بهم بعد وفاته مباشرة, ومن هذه الواجبات:

    1 – عدة الزوجة

    والعدة، هي إعلان الزوجة الحداد على زوجها، ويكون ذلك بترك التزين المنافي لحالة الحزن, يقول الإمام الخميني قدس سره: " يجب على المرأة في وفاة زوجها الحداد ما دامت في العدة؛ والمراد به ترك الزينة في البدن، بمثل التكحيل، والتطيب والخِضاب 43، وتحمير الوجه، والخطاط ونحوها، وفي اللباس بلبس الأحمر والأصفر والحلي ونحوها، وبالجملة ترك ما يعد زينة تتزين به للزوج، وفي الأوقات المناسبة له في العادة كالأعياد والأعراس ونحوهما، ويختلف ذلك بحسب الأشخاص والأزمان والبلاد، فيلاحظ في كل بلد ما هو المعتاد والمتعارف فيه للتزيين"44.

    ولكن الحداد لا يعني أن تترك المرأة تنظيف بدنها، والاهتمام بسائر ما تقوم به المرأة من شؤونها الخاصة بها، كتقليم الأظافر

    25

    وغيره، يقول قدس سره:"نعم لا بأس بتنظيف البدن واللباس، وتسريح الشعر، وتقليم الأظفار، ودخول الحمام، والافتراش بالفراش الفاخر، والسُكنى في المساكن المزينة، وتزيين أولادها وخدمها"45.

    كما أنه يجوز للمرأة في حال عدتها الخروج من المنزل لقضاء حاجاتها, كما يجوز لها السفر للزيارة أو الحج, يقول الإمام الخميني قدس سره:"يجوز للمعتدة بعد الوفاة أن تخرج من بيتها، في زمان عدتها، والتردد في حوائجها، خصوصاً إذا كانت ضرورية، أو كان خروجها لأمور راجحة، كالحج والزيارة، وعيادة المرضى، وزيارة أرحامها، ولا سيَّما والديها"46.

    2 – قضاء الصلوات

    والمراد به أن يقضي الولد الأكبر عن أبيه، ما يجب عليه من الصلاة التي كانت متعلقة في ذمة الأب المتوفى, والمراد بالولد الأكبر هنا الذكر لا الأنثى, يقول الإمام الخميني قدس سره:" يجب على الولي، وهو الولد الأكبر، قضاء ما فات عن والده من الصلوات لعذرٍ من نوم ونسيان ونحوهما، ولا تلحق الوالدة بالوالد وإن كان أحوط استحباباً ، والأقوى عدم الفرق بين الترك عمداً

    26

    وغيره"47. أما فيما لو كان في ذمة الوالد المتوفى قضاء بسبب الاستئجار أو أنه كان عليه وجوب القضاء عن والده, فلا ينتقل وجوب قضاء هذه الصلوات للولد الأكبر, فيكون المراد من وجوب القضاء عن الولد الأكبر قضاء ما على والده من صلاة نفسه فقط, يقول الإمام الخميني:"وإنما يجب عليه قضاء ما فات عن الميت من صلاة نفسه دون ما وجب عليه بالإجارة أو من جهة كونه ولياً"48.

    27

    هوامش
    5- الشيخ الصدوق - من لا يحضره الفقيه - ج1 ص139
    6- الحسين بن سعيد - كتاب المؤمن - ص 36
    7- الدخان: 29
    8- الميرزا النوري - مستدرك الوسائل - ج 2 ص 469
    9- السيد البروجردي - جامع أحاديث الشيعة - ج3 ص480
    10- الشهيد الثاني - مسكن الفؤاد عند فقد الأحبّة والأولاد - ص 93
    11- الشهيد الثاني -مسكن الفؤاد عند فقد الأحبّة والأولاد - ص 93
    12- السيد البروجردي - جامع أحاديث الشيعة - ج 3 ص 471
    13- الشيخ الكليني-الكافي- ج 3 ص 250
    14- الحرّاني - تحف العقول - ص 361
    15- الحسين بن سعيد - كتاب المؤمن - ص 27
    16- السيد البروجردي - جامع أحاديث الشيعة - ج3،ص513-514
    17- الشهيد الثاني - مسكن الفؤاد عند فقد الأحبة - ص 50
    18- الشهيد الثاني -مسكن الفؤاد عند فقد الأحبّة والأولاد - ص 51
    19- الشهيد الثاني -مسكن الفؤاد عند فقد الأحبّة والأولاد - ص 53
    20- الريشهري- ميزان الحكمة- ح 10079
    21- طه: 132
    22- البقرة: 45
    23- الشهيد الثاني - مسكن الفؤاد عند فقد الأحبّة والأولاد- ص 56
    24- المائدة: 119
    25- التوبة: 72
    26- الشهيد الثاني - مسكن الفؤاد عند فقد الأحبّة والأولاد- ص 79
    27- م. ن. ص 80
    28- السيد البروجردي - جامع أحاديث الشيعة - ج3ص526
    29- في تمهيد الكتاب
    30- الإمام الخميني - تحرير الوسيلة - ج 1 ص 274
    31- يوسف: 87
    32- الشيخ الكليني-الكافي-ج 2 ص 544
    33- الريشهري - ميزان الحكمة - ج 3 ص 2632
    34- م . ن. ج 4 ص 3704
    35- الإمام الخميني - تحرير الوسيلة -ج 2 ص 125 - 126
    36- راجع الإمام الخميني - تحرير الوسيلة -ج 2 ص 126
    37- الميرزا النوري- مستدرك الوسائل - ج2 ص452
    38- السيد البروجردي - جامع أحاديث الشيعة - ج3 ص485-486
    39- م .ن . ج 3 ص 483
    40- السيد البروجردي - جامع أحاديث الشيعة - ج 3 ص 483
    41- م . ن . ج3، ص 479
    42- م . ن . ج3، ص 488
    43- الخضاب: ما يختضب به. وقد خضبت الشيء أخضبه خضبا. واختضب بالحناء ونحوه, والمراد به هنا صباغة المرأة لشعرها
    44- الإمام الخميني - تحرير الوسيلة -ج 2 ص 339
    45- م . ن . ج 2 ص 339
    46- م . ن . ج 2 ص 339
    47- الإمام الخميني - تحرير الوسيلة -ج 1 ص 227
    48- م . ن . ج 1 ص 227


    يتبع

  • #2
    الفصل الثاني: آداب المعزي

    ما هي التعزية ؟


    التعزية، هي تفعلةٌ من العزاء أي الصبر، يقال: عزّيته أي صبّ رته، والمراد بها طلب التسلّي عن المصائب والتصبّر عن الحزن، والانكسار بإسناد الأمر إلى الله، ونسبته إلى عدله وحكمته، وذِكْرِ ما وعد الله على الصبر، مع الدعاء للميت، والمصاب لتسليته عن المصيبة، وهى مستحبّة إجماعاً ولا كراهة فيها بعد الدفن عندنا 1.


    فضل التعزية


    عندما نتأمّل ما ورد في الروايات الشريفة من فضل التعزية والمواساة في الأحزان والأتراح، يتعجّب الإنسان من عظيم الفضل الذي وضع مقابل هذا العمل الذي لا يعدّ من الأمور التي تنهك الجسد, فقد تكون في غالب الأحيان كلمة مؤثّرة أو عِظة من حكمة أو حديث أو مثل. ولننظر إلى ما ورد عن رسول الله الأكرم صلى الله عليه و آله وأهل البيت عليهم السلام في فضل التعزية وهو كثير.

    30

    فعن رسول الله الأكرم صلى الله عليه و آله : "من عزى مصاباً كان له مثل أجره من غير أن ينتقص من أجر المصاب شيئاً"2.

    وجاء عن الرسول الأكرم الله صلى الله عليه و آله ، أيضاً قوله: "التعزية تورث الجنة"3.

    وفي رواية أخرى عن الإمام الصادق عليه السلام ، عن آبائه عليهم السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه و آله : "من عزى حزيناً كسي في الموقف حلَّة يحْبَر بها"4.

    وذكرالشهيد الثاني في مسكن الفؤاد عن أنس قال قال: رسول الله صلى الله عليه و آله : "من عزى أخاه المؤمن من مصيبة كساه الله عزَّ وجلَّ حِلَّة خضراء يحبر بها يوم القيامة. قيل يا رسول الله صلى الله عليه و آله ما يحبر بها قال: "يغبط بها" 5.

    فقد جعل الله تعالى في الصبر على المصيبة أجراً كبيراً وعظيماً عنده, وبمجرد ذهاب الإنسان المؤمن للتعزية بفقيد, فإن أجر الصبر على المصيبة الذي كتب لصاحب العزاء يكتب للمعزي أيضاً, من دون أن ينقص من أجر صاحب المصيبة, وهذا من عظيم الكرم الإلهي.

    31

    ومن التعزية التي لها فضل كبير، أن يهتم المعزي بأيتام المتوفى, فيخفف عنهم ويسليهم عن المصيبة ويسْكِتْ بكاءهم، فقد ورد في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه و آله : "إنَّ اليتيم إذا بكى اهتز له العرش، فيقول الرب تبارك وتعالى، من هذا الذي أبكى عبدي الذي أسلبته أبويه في صغره، فوعزتي وجلالي لا يسكته أحدٌ إلا أوجبت له الجنة"6.


    متى تكون التعزية؟


    إن للتعزية وقتاً اعتبره الشارع الوقت الأفضل لها, وهو أن تكون بعد الدفن فعن الإمام الصادق عليه السلام : "التعزية الواجبة بعد الدفن" 7.

    نعم تجوز التعزية قبل الدفن وبعده 8.

    والتعزية، من الواجبات الاجتماعية لدى أغلب المجتمعات البشرية, أما في الإسلام فلها أسلوب خاص أراده الله تعالى وعلمنا إياه الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله , فما هو فضل التعزية، وكيف نعزي الآخرين؟

    32

    كيف نعزي؟


    هناك طرق كثيرة، يمكن للإنسان من خلالها، أن يظهر التعاطف والتضامن مع أهل العزاء, فحضوره لدى أهل المصيبة بنفسه عزاء لهم, لأن التواجد إلى جنبهم في هذه المرحلة، التي يعتبرونها صعبة، بحد ذاته مواساة لهم، ولو لم يقال لهم ما يخفف عنهم, ففي الرواية عن الإمام الصادق عليه السلام في التعزية الواجبة بعد الدفن, "كفاك من التعزية بأن يراك صاحب المصيبة"9.

    ولقد كان الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله , وأهل البيت عليهم السلام يعزون بأسلوب خاص وبما أننا من أتباعهم، فإننا نستن بسنتهم, ونمشي على إثر خطاهم.

    ففي الرواية، "أنه لما قبِضَ رسول الله صلى الله عليه و آله ، أحدق به أصحابه فبكوا حوله، واجتمعوا، فدخل رجل أشهب اللحية، جسيم صبيح، فتخطى رقابهم فبكى، ثم التفت إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه و آله فقال: إن في الله عزاءً من كل مصيبة، وعوضاً من كل فائت، وخلفاً من كل هالك، فإلى الله فأنيبوا، وإليه فارغبوا، ونظره إليكم في البلاء فانظروا، فإن المصاب من لم يؤجر.
    فقال بعضهم لبعض: تعرفون الرجل ؟ فقال علي عليه السلام :

    33

    نعم، هذا أخو رسول الله صلى الله عليه و آله الخضر عليه السلام"10.

    وقد عزى الإمام الصادق عليه السلام قوماً فقال لهم:"جبر الله وهنَكم، وأحسنَ عزاكم، ورحِمَ متوفاكم"11.

    وعن الإمام الرضا عليه السلام في تعزيته للحسن بن سهل :
    "... التهنئة بآجل الثواب، أولى من التعزية على عاجل المصيبة"12.

    وفي الرواية أنه كتب الإمام الجواد عليه السلام إلى رجل: "ذكرت مصيبتك بعلي ابنك. وذكرت أنه كان أحب ولدك إليك، وكذلك الله عزَّ وجلَّ إنما يأخذ من الوالد وغيره أزكى ما عند أهله, ليعظم به أجر المصاب بالمصيبة, فأعظمَ الله أجرك وأحسن عزاك، وربط على قلبك إنه قدير، وعجل الله عليك بالخلف، وأرجو أن يكون الله قد فعل إن شاء الله تعالى"13.

    وفي رواية أخرى: عزى الإمام الصادق عليه السلام رجلاً بابنٍ له فقال عليه السلام : "الله خير لابنك منك، وثواب الله خير لك من ابنك، فلما بلغه جزعه بعد ذلك عاد إليه فقال له عليه السلام : قد مات رسول الله صلى الله عليه و آله فما لك به أسوة فقال: إنه كان مرْهَقاً

    34

    فقال عليه السلام : إن أمامه ثلاث خصال: شهادة أن لا إله إلا الله، ورحمة الله، وشفاعة رسول الله صلى الله عليه و آله ، فلن تفوته واحدة منهن إن شاء الله"14.

    ويروى أن رسول الله صلى الله عليه و آله كتب إلى معاذ يعزيه بابنه:
    "من محمد رسول الله صلى الله عليه و آله إلى معاذ بن جبل، سلام عليك؛ فإني أحمد الله الذي لا اله إلا هو، أما بعد: فقد بلغني جزعك على ولدك الذي قضى الله عليه، وإنما كان ابنك من مواهب الله الهنيئة، وعواريه المستودعة عندك، فمتعك الله به إلى أجل، وقبضه لوقت معلوم فإنا لله وإنا إليه راجعون. لا يحبطن جزعك أجرك ولو قدِمت على ثواب مصيبتك، لعلمت أن المصيبة قد قصرت لعظيم ما أعد الله عليها من الثواب لأهل التسليم والصبرَ. واعلم أن الجزعِ لا يرد ميتاً، ولا يدفع قدراً، فأحسن العزاء وتَنَجزِ الموعود، فلا يَذْهَبَن أسفك على ما هو لازم لك ولجميع الخلق نازلٌ بقدره، والسلام عليك ورحمة الله و بركاته"15.

    وفي هذ الخصوص أيضاً جاء ما ذكر عن الرسول الاكرم صلى الله عليه و آله ، فعن أبي عبد الله عليه السلام قال: "لما قبض رسول الله صلى الله عليه و آله أتاهم آتٍ يسمعون حسه، ولا يرون شخصه فقال: السلام عليكم يا أهل البيت ورحمة الله وبركاته ﴿كل نَفْسٍ ذَآئِقَة الْمَوْتِ وَإِنَّمَا توَفَّوْنَ أجورَكمْ يَوْمَ

    35

    الْقِيَامَةِ فَمَن زحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاة الدنْيَا إِلاَّ مَتَاع الْغرور وَما الْحَيَاة الدنْيَا إِلَّا مَتَاع الْغرورِ﴾ 16 في الله عزَّ وجلَّ عزاء من كل مصيبة، وخلفٌ من كل هالك، ودرك لما فات، فبالله فثقوا، وإياه فارجوا، فإن المحروم من حرِمَ الثواب. والسلام عليكم" 17.


    تعزية اليتيم


    تتحدث الروايات عن اليتيم المفجوع بفقد أحد والديه. وقد ترك لنا المعصومون عليهم السلام أخباراً تؤكد على لزوم مواساتهم والتخفيف عنهم، فإذا كان المعزى يتيماً، فامسح يدك على رأسه. فقد روي عن النبي صلى الله عليه و آله أنه قال: "من مسح يده على رأس يتيم تَرَحماً له كتب الله له بكل شعرةٍ مرت عليه يده حسنة"18.


    حضور النساء للعزاء


    فإن على المرأة أيضاً أن تخفف عن امرأة المتوفى, وأهله, وتواسيهم في مصابهم. كما جاء في الرواية عن الإمام الباقر عليه السلام : "مات ابن المغيرة فسألت أم سلمة النبي صلى الله عليه و آله أن يأذن لها في

    36

    المضي إلى مناحته، فَأَذن لها وكان ابن عمتها فقالت:


    أَنْعَى الْوَليدَ بْنَ الوَليدِ أَبا الوَليدِ فَتَى العَشيرَة

    حامي الْحَقيقَة ماجِداً يَسْمو إلى طَلَبِ الوَتيرَة

    قَدْ كانَ غَيْثاً فِي السنينِ وَجَعْفَراً غَدِقاً وَميرَة"19.



    ما يذكر في العزاء


    على المعزي أن يذكر أهل العزاء بما يخفف عنهم المصيبة.

    ومن العناوين التي ينبغي التحدث بها في المآتم:

    1 - التذكير بالعدل الإلهي

    وسنذكر نموذجاً عن هذا التذكير، ذكره الشهيد الثاني قدس سره في مسكن الفؤاد, وهو أن يقال لصاحب العزاء :..."إنك نظرت إلى عدل الله وحكمته، وتمام فضله ورحمته، وكمال عنايته ببريته، إذ أخرجهم إلى الوجود من العدم، وأسبغ عليهم جلائل النعم، وأيدهم بالألطاف، وأمدهم بجزيل المعونة والإسعاف، كل ذلك ليأخذوا حظهم من السعادة الأبدية، والكرامة

    37

    السرمدية، لا لحاجة منه إليهم، ولا لاعتماد في شيء من أمره عليهم ؛ لأنه الغني المطلق...وكلفهم بالتكاليف الشاقة، والأعمال الثقيلة ﴿لِنَبْلوهمْ أيهم أَحْسَن عملاً﴾ 20، وما فعل ذلك إلا لغاية منفعتهم، وتمام مصلحتهم، وأرسل إليهم الرسل مبشرين ومنذرين، وأنزل عليهم الكتب، وأودعها ما فيه بلاغ للعالمين, وإذا كانت أفعاله تعالى وتقدس كلها لمصلحتهم، وما فيه تمام شرفهم، والموت من جملة ذلك كما نطق به الوحي الإلهي في عدة آيات، كقوله تعالى:﴿وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَموتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ كِتَاباً مؤَجَّلاً وَمَنْ يرِدْ ثَوَابَ الدنْيَا نؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ﴾ 21, وقوله تعالى:﴿قلْ لَوْ كنْتمْ فِي بيوتِكمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كتِبَ عَلَيْهِم الْقَتْل إِلَى مَضَاجِعِهِمْ﴾22.

    وقوله تعالى:﴿أَيْنَمَا تَكونوا يدْرِكْكم الْمَوْت وَلَوْ كنْتمْ فِي بروجٍ

    38

    مشَيَّدَةٍ﴾23, وقوله تعالى: ﴿الله يَتَوَفَّى الْأَنْفسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمتْ فِي مَنَامِهَا فَيمْسِك الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيرْسِل الْأخْرَى إِلَى أَجَلٍ مسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرونَ ﴾24 ، وغير ذلك من الآيات"25.

    2 - التذكير بالبلاء

    وممَّا يمكن أن يسكن به روع أهل المصاب, ويخفف عنهم به التذكير بقضية البلاء وأهميته, وأن البلاء مما وعد به الله تعالى عباده في كتابه حيث يقول:
    ﴿وَلَنَبْلوَنَّكمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾26, فلا بدَّ من البلاء للتمحيص, ولاختبار تقبل الإنسان المؤمن للأحكام الإلهية, والالتزام بها. فعن الإمام علي عليه السلام في قوله تعالى﴿إِنَّمَا أَمْوَالكمْ وَأَوْلادكمْ فِتْنَةٌ﴾ قال: "ومعنى ذلك، أنه سبحانه، يختبر عباده بالأموال والأولاد، ليتبين الساخط لرزقه والراضي بقسمه, وإن كان سبحانه أعلم بهم من أنفسهم ولكن لتظهر الأفعال،

    39

    التي بها يستحق الثواب والعقاب"27.

    وقد أعدَّ الله عزَّ وجلَّ للإنسان من الأجر الكثير والكبير في الصبر على البلاء؛ ففي الرواية عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام : "إن عظيم الأجر مع عظيم البلاء، وما أحبّ الله عزَّ وجلَّ قوماً إلا ابتلاهم"28.

    3 - المواعظ

    وهي الأمور التي يمكن أن تروى لأخذ العبرة منها كالقصص, وخصوصاً لمن تأخذ منه المصيبة مأخذاً بحيث يغلب عليه الحزن, ويقارب درجة اليأس.

    فتذكر لأصحاب المصيبة لتسقى الروح الذابلة بمطر الرضا, فتجري في عروقها ماء التسليم لإرادة الله تعالى.

    منها ما ذكر أنه كان في بني إسرائيل رجل فقيه عابد عالم مجتهد، وكانت له امرأة، وكان بها معجباً، فماتت فوجد عليها وجداً شديداً، حتى خلا في بيت، وأغلق على نفسه، واحتجب عن الناس، فلم يكن يدخل عليه أحد. ثم إن امرأة من بني إسرائيل سمعت به، فجاءته فقالت: "لي إليه حاجة استفتيه فيها، ليس يجزيني إلا أن أشافهه بها"، فذهب الناس، ولزمت الباب،

    40

    فأخبِرَ، فأَذِنَ لها، فقالت:"أستفتيك في أمر"، فقال: "ما هو"؟

    قالت: "إني استعرت من جارة لي حلياً، فكنت ألبسه زماناً، ثم إنهم أرسلوا إلي فيه، أفأرده إليهم؟"

    قال: "نعم".

    قالت: "والله إنه قد مكث عندي زماناً طويلاً"

    قال: "ذاك أحق لردك إياه".

    فقالت له: "رحمك الله، أَفَتَأْسَف على ما أعارك الله عزَّ وجلَّ، ثم أخذه منك، وهو أحق به منك ؟ فأبصر ما كان فيه". ونفعه الله بقولها 29.

    ومن المناسب أن يذكر من فقد ولداً عزيزاً؛ بما في ذلك من الرحمة والشفاعة له؛ وبما ورد عن رسول الله الأكرم صلى الله عليه و آله , وآل البيت عليهم السلام من روايات، منها ما روي عن أبي جعفر محمد بن علي الباقر عليهما السلام ، قال: "من قدم أولاداً يحتسبهم عند الله تعالى، حجبوه من النار بإذن الله عزَّ وجلَّ"30.

    وعن أبي عبد الله عليه السلام ، قال: "ولدٌ واحد يقدمه الرجل أفضل من سبعين، يخلفونه من بعده، كلهم قد ركب الخيل، وقاتل في سبيل الله" 31.

    4 – التذكير بمصابنا بالرسول الأكرم صلى الله عليه و آله

    41

    إن أي مصيبة بعد رسول الله صلى الله عليه و آله هينة, فقد جاء في الروايات الشريفة عنه صلى الله عليه و آله أن يتذكر بالمصاب مصيبته ليخفف عنه ما أصابه, فعن ابن عباس رضوان الله عليه قال: قال رسول الله صلى الله عليه و آله : "إذا أصاب أحدكم مصيبة فليذكر مصيبته بي، فإنها من أعظم المصائب". وعنه صلى الله عليه و آله : "من عظمت مصيبته فليذكر مصيبته بي، فإنها ستهون عليه". وعنه صلى الله عليه و آله ، إنه قال في مرض موته: "أيها الناس، أيما عبدٍ من أمتي أصيب بمصيبةٍ من بعدي فليتعزَّ بمصيبته بي عن المصيبة التي تصيبه بغيري، فإن أحداً من أمتي لن يصاب بمصيبة بعدي أشدَّ عليهِ من مصيبتي "32.

    وعن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه و آله قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه و آله يقول: "بَخْ بَخْ 33، خَمْسٌ ما أَثْقَلَهفنَّ في الميزان ! لا إله إلا الله، وسبحان الله، والحمد لله، والله أكبر، والولد الصالح يتوفى للمرء المسلم فيحتسبه"34.

    5 - عدم توهين عزيمة أهل العزاء:

    42

    إنَّ على أقارب الفقيد ومن أتى لتقديم التعازي, أن يرفع من معنويات أصحاب العزاء, لا أن يحبطها من خلال نواحه, والقيام بالصراخ والعويل, ففي الرواية عن الإمام الباقر عليه السلام : "أشد الجزع الصراخ بالويل والعويل ولطم الوجه والصدر، وجز الشعر ومن أقام النواح فقد ترك الصبر، ومن صبر واسترجع وحمد الله تعالى، فقد رضي بما صنع الله، ووقع أجره على الله عزَّ وجلَّ، ومن لم يفعل ذلك جرى عليه القضاء وهو ذميم، وأحبط الله عزَّ وجلَّ أجره" 35.

    ويكفي أهل المصاب ما حل بهم, فلا ينبغي المزايدة عليهم أو زيادة حزنهم بهذه التصرفات, حتى وإن كان يشعر بالأسى والحزن عليه لمعرفته بهم, بل ينبغي الشد على أيديهم؛ للتصبر والتسليم بما قضى الله تعالى لهم من أمره, وما أجراه عليهم من حكمته.

    وفي رواية أخرى عن الإمام الصادق عليه السلام : "الضرب على الفخذ عند المصيبة يحبط الأجر ، والصبر عند الصدمة الأولى أعظم، وعِظَم الأجر على قَدْر المصيبة، ومن استرجع بعد المصيبة جدَّد الله له أجرها كيومَ أصيب بها"36.

    43

    ومن النماذج الرائعة والمعبرة التي يرويها التاريخ في هذا الصدد, أن "صلة بن أشيم" كان في مغزى له، ومعه ابن له، فقال لابنه: "أي بني تقدم فقاتل حتى أحتسبكْ، فحمل فقاتل فقتل، ثم تقدم أبوه فقاتل فقتل، قال: فاجتمع النساء عند أمه معاذة العدوية زوجة صلة، فقالت لهن: "مرحباً بِكنْ إن كنتن جئتن لِتَهْنِئَتي ، وإن كنتن جئتن لغير ذلك فارجِعْن"37.


    الطعام في العزاء


    جرت العادة في بعض الأعراف أن على أهل العزاء أن يعدوا الطعام لمن جاء لتعزيتهم, وهذه العادة كانت قبل الإسلام, أي قبل بعثة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله , ففي الرواية عن الإمام الصادق عليه السلام : "الأكل عند أهل المصيبة من عمل الجاهلية, والسنة البعث إليهم بالطعام" 38.


    إذاً؛ ما هو المقصود من الإطعام في الشريعة الإسلامية الغراء؟

    المقصود من الإطعام عند المصاب: تحضير الطعام لأهل الميت المنشغلين بتقبل العزاء والمواساة من الناس, حيث لا وقت

    44

    لديهم لتحضير الطعام, وهذا العمل هو من السنن التي سنها الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله ؛ فعن أبي عبد الله عليه السلام قال: "لما قتل جعفر بن أبي طالب دخل رسول الله صلى الله عليه و آله على أسماء بنت عميس إلى أن قال: فقال: إجعلوا لأهل جعفر طعاماً فجرت السنة إلى اليوم"39 .

    وفي رواية أخرى عن الإمام الصادق عليه السلام قال: "لما قتل جعفر بن أبي طالب أمر رسول الله صلى الله عليه و آله فاطمة عليها السلام أن تَأْتِيَ أسماء بنت عميس، هي ونساؤها وتقيم عندها وتصنع لها طعاماً ثلاثة أيام" 40.

    بل إن بعض الروايات أكدت على أن الجيران، هم من يقومون بتحضير الطعام عن روح الميت، لا أهل العزاء، وروى أبو بصير عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال: " ينبغي لصاحب الجنازة أن لا يلبس رداء، وأن يكون في قميص حتى يعرف، وينبغي لجيرانه أن يطعموا عنه ثلاثة أيام"41.

    45

    هوامش

    1- الشيخ الكليني-الكافي- ج 3 ص 203
    2- الشيخ الكليني-الكافي- ج 3 ص 205
    3-السيد البروجردي - جامع أحاديث الشيعة - ج 3 ص 454
    4- الشيخ الكليني-الكافي- ج 3 ص 205
    5- السيد البروجردي - جامع أحاديث الشيعة - ج3 ص452
    6- الشيخ الصدوق - ثواب الأعمال - ص 200
    7- الشيخ الكليني-الكافي- ج 3 ص 204
    8- الإمام الخميني {- تحرير الوسيلة -ج 1 ص 96
    9-السيد البروجردي -جامع أحاديث الشيعة - ج 3 ص 455
    10- الريشهري-ميزان الحكمة-ج 3 ص 1972
    11-م . ن.ج 3 ص 1972
    12-م . ن.ج 3 ص 1972
    13- الشيخ الكليني-الكافي- ج 3 ص 205
    14- الشيخ الكليني-الكافي- ج 3 ص 204
    15-السيد البروجردي -جامع أحاديث الشيعة - ج 3 ص 457
    16-آل عمران: 185
    17-السيد البروجردي - جامع أحاديث الشيعة - ج 3 ص 461
    18-م . ن .ج3ص463
    19-السيد البروجردي -جامع أحاديث الشيعة - ج 3 ص 468
    20- الكهف: 7
    21-آل عمران:145
    22-آل عمران: من الآية154
    23-النساء:78
    24-الزمر:42
    25-نقلا عنمسكن الفؤاد للشهيد الثاني قدس سره بتصرّف وتلخيص
    26-البقرة:155
    27-الريشهري-ميزان الحكمة-ح1890
    28- الشهيد الثاني- مسكن الفؤاد عند فقد الأحبّة والأولاد-ص 113
    29-الشهيد الثانيمسكن الفؤاد عند فقد الأحبّة والأولاد – ص 111
    30-م . ن. ص30
    31-م . ن . ص30
    32-الشهيد الثاني- مسكن الفؤاد عند فقد الأحبّة والأولاد- ص 110
    33- بخ بخ، كلمة تقال عند المدح والرضا بالشئ، وتكرر للمبالغة، وربما شددت ومعناها: تفخيم الأمر وتعظيمه، ومعني يحتسبه، أي: يجعله حسبة وكفاية عند الله عزَّ وجلَّ، أي: يحتسب بصبره على مصيبة بموته، ورضاه بالقضاء.
    34-مسكن الفؤاد عند فقد الأحبّة والأولاد-الشهيد الثاني– ص31
    35-الشيخ الكليني-الكافي- ج 3 ص 223
    36- الشهيد الثاني- مسكن الفؤاد عند فقد الأحبّة والأولاد- ص 53
    37- الشهيد الثاني- مسكن الفؤاد عند فقد الأحبّة والأولاد- ص 73
    38- الشيخ الصدوق- من لا يحضره الفقيه -ج 1 ص 182
    39-الحرّ العامليّ - وسائل الشيعة - ج 3 ص 237
    40-م . ن.ج 2 ص 889
    41- الشيخ الصدوق- من لا يحضره الفقيه- ج 1 ص 174



    يتبع

    تعليق


    • #3
      الفصل الثالث: 1- عزاء الشهداء 2- أعراف و أحكام
      الأمر الأول:عزاء الشهداء


      يختلف الأمر عندما يكون المعزَّى بهِ فقيداً عادياً - أي مات بعارضٍ ما -, عما لو كان المعزَّى بهِ شهيداً, وسبب الاختلاف هو ما منحه الشرع من قداسة رفيعةٍ لمعنى الشهادة, وكرامة الشهيد عنده عز وجل، يقول العلامة المفكر الشهيد مرتضى مطهري قدس سره:
      ... "الشهيد" كلمةٌ لها في الإطار الإسلامي قداسةٌ خاصةٌ, والإنسان الذي يعيش المفاهيم الإسلامية, ينظر إلى هذه الكلمة وكأنها مؤطرة بهالة من نور, كلمة "الشهيد" مقرونة بالقداسة والعظمة في جميع أعراف المجموعات البشرية، مع اختلاف بينهما في الموازين والمقاييس"1.

      وفي هذه المناسبات ينبغي على الإنسان المؤمن، الذي يذهب للعزاء, أن يهنئَ أهل الشهيدِ لأنَّ الله تعالى اختار ولدهم شهيداً, والشهادة هي كرامةٌ يمن الله تعالى بها على من يجتبيه من خلقه, وأنَّ الله عزَّ وجلَّ قد ميَّز الشهيد عن غيره، ممن فارق الحياة, فلم يضعه في مصافِّ الأموات, بل نهى عن نعتنا إياه بالميت.

      يقول عز من قائل :﴿ وَلا تَقولوا لِمَنْ يقْتَل فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتٌ

      48

      بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعرونَ﴾2.

      فالشهداء -إذاً- "أحياء" و"عند ربهم يرْزَقون... " وما أعظمها من منزلة, والسنَّة تكْثِر من تشبيه المكانة السامية التي يمكن أن ينالها إنسان في حياته بمكانة الشهيد,لأنها ذروة الرقي والتكامل في المسيرة الإنسانية...

      ما يقال في عزاء الشهداء


      مما ينبغي أن يذكر في مجالس العزاء للشهداء، المنزلة التي وعد الله تعالى بها الشهداء, واستذكار ما كان من حسن صفاتهم, وحسن بلائهم وتضحياتهم, وكذلك ما روي من الأحاديث الشريفة التي عددت ما وعدهم الله تعالى به, وفضل المقام الذي وصلوا إليه.

      منها ما روي عن أبي عبد الله عليه السلام عن رسول الله صلى الله عليه و آله أنه قال: "فوق كل ذي بِرٍّ بِرٌّ,حتى يقتل في سبيل الله, فإذا قتل في سبيل الله فليس فوقه بِرٌّ"3.

      وفي رواية أخرى عن رسول الله صلى الله عليه و آله : "ما من قطرةٍ أحب إلى الله عزَّ وجلَّ من قطرةِ دمٍ في سبيل الله"4.

      49

      وعن أبي عبد الله الصادق عليه السلام قال:"قيل للنبي صلى الله عليه و آله : "ما بال الشهيد لا يفْتَن في قبره؟ فقال النبي صلى الله عليه و آله : كفى بالبارقة فوق رأسه فتنة"5,أي ببارقة السيوف,أي لمعانها.

      ومن كان كذلك مقامه، فحقيقٌ أن لا يبكى عليه لأنه فارق الحياة, بل يبكى على فقد أمثاله مما بيننا, لأنَّ من يحمل هذه الروحيَّة المتميزة التي تؤهِّله لرضوان الله وكرامته, ففقده ثلمةٌ في الإسلام.

      ففي الرواية عن أبي الحسن موسى بن جعفر الكاظم عليه السلام قال: "إذا مات المؤمن بكت عليه الملائكة وبقاع الأرض التي كان يعبد الله عليها، وأبواب السماء التي كان يصعد أعماله فيها، وثلم ثلمة في الإسلام لا يسدها شيء، لأنَّ المؤمنين حصون الإسلام كحصونِ سورِ المدينةِ لها"6.

      ومما يقال أيضاً في عزاء الشهداء, أن يذكر أهل العزاء بما خص الله تعالى به الشهيد من الشفاعة في أهله وأحبائه, فقد ورد في الأثر أنَّ الله يقبل الشفاعة يوم القيامة من ثلاث طبقات: طبقة الأنبياء, وطبقة العلماء, ثم الشهداء, فعن الرسول الأكرم صلى الله عليه و آله : "ثلاثة يشفعون إلى الله عزَّ وجلَّ فيشفعهم: الأنبياء،

      50

      ثم العلماء، ثم الشهداء"7.

      وهنا ينبغي أن نوضِّح بأنَّ الشفاعة هذه هي "شفاعة الهداية", إنها تجسيد لما حدث في الدنيا من حقائق, فعن طريق الأنبياء اهتدى الناس ونجوا من الظلمات, والعلماء - في هذا الحديث - هم العلماء الربانيون في طليعتهم الأئمة الأطهار عليهم السلام , والرهط الصالح من أتباعهم ومن حذا حذوهم، وهؤلاء أيضاً ساروا على طريق الأنبياء عليهم السلام , وأخرجوا الناس من الظلمات إلى النور, والشهداء ينهضون بنفس الدور، يضيئون الدرب أمام الناس، فيهتدي من يريد الهداية بهم ، وبذلك يكون الشهداء شفعاء لمن اهتدى بهم8.

      الأمر الثاني: أعراف وأحكام


      لدى الناس بعض الأعراف والعادات، فهم يسيرون عليها ولا يقصرون في الالتزام بها متى فقدوا عزيزاً، كإقامة مأتم الثالث، الأسبوع وذكرى الأربعين، فهل هذه الأمور مشروعة، وهل وردت بها روايات عن أهل البيت عليهم السلام؟

      لا شك في أن ما يجري في هذه المآتم من قراءة القرآن، وإقامة

      51

      مجالس العزاء الحسينية، وإهداء ثواب ذلك إلى الميت، هو أمر مستحب ومحبذ، ويكفي فيه ما ورد من الحث في الروايات على صلة الميت، بل هو من أنواع البر بالميت، فقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه و آله - لما سئل عن بر الوالدين بعد موتهما -: "نعم، الصلاة عليهما، والإستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما من بعدهما، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما، وإكرام صديقهما"9.

      1ـ مراسم اليوم الثالث

      إن من يراجع التاريخ الإسلامي ومصادر التشريع، يلاحظ أنَّ الروايات الشريفة أكَّدت على أنَّ العزاء هو ثلاثة أيام, ففي الرواية عن الإمام الباقر عليه السلام : "يصنع للميت مأتم ثلاثة أيام من يوم مات"10.

      وفي رواية أخرى عن الإمام الصادق عليه السلام : "ليس لأحدٍ أن يحد أكثر من ثلاثة أيام, إلا المرأة على زوجها حتى تنقضي عدتها"11.

      ومن الروايات ما ورد عن الإمام الصادق عليه السلام : "ينبغي لصاحب المصيبة أن لا يلبس الرداء، وأن يكون في قميص حتى يعرف، وينبغي لجيرانه أن يطعموا عنه ثلاثة أيام"12.

      ولذا، يذكر العلامة المجلسي صاحب بحار الأنوار: "وأما

      52

      استحباب بعث الطعام ثلاثة أيام إلى صاحب المصيبة، فلا خلاف بين الأصحاب في ذلك، وفيه إيماء إلى استحباب اتخاذ المأتم ثلاثة، بل على استحباب تعاهدهم وتعزيتهم ثلاثة أيضاً، فإن الإطعام عنه يدل على اجتماع الناس للمصيبة"13.

      2ـ مراسم ذكرى الأسبوع

      لم نجد في المرويات الواردة عن النبي صلى الله عليه و آله وأهل البيت عليهم السلام ، ما يدل على إقامة المتعارف الآن بين الناس من ذكرى الأسبوع، أو ما يدل على استحباب إقامة الأسابيع للأموات 14.

      ولذا، فإنه لا بد من التأكيد على نية أهل العزاء عند إقامة الأسبوع عن المتوفى، بأن يقصدوا إقامة هذه الأسابيع بقصد تعزيتهم والمواساة لهم، وقراءة القرآن عن روح ميتهم، وذكر مصاب أهل البيت عليهم السلام وإهداء الثواب في ذلك كله لروح الميت، فإن هذا أمرٌ مطلوب في نفسه، ولا محذور فيه.

      3ـ مراسم ذكرى الأربعين

      ورد التعرض لمسألة الأربعين في العديد من الروايات من أبواب متعددة؛ فقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه و آله أنه قال: "يا أبا ذر: إن الأرض لتبكي على المؤمن إذا مات أربعين صباحاً"15.

      53

      كما ورد في الروايات عن مقتل الإمام الحسين عليه السلام على لسان الإمام الصادق عليه السلام أنه قال: "إن السماء بكت على الحسين أربعين صباحاً بالدم، وإن الأرض بكت أربعين صباحاً بالسواد، وإن الشمس بكت أربعين صباحاً بالكسوف والحمرة، وإنَّ الجبال تقطعت وانتثرت، وإن البحار تفجرت وإن الملائكة بكت أربعين صباحاً على الحسين عليه السلام "16.

      وورد في الرواية: "بكى آدم عليه السلام على هابيل أربعين ليلة"17.

      تدل هذه الروايات بوضوح على أن للأربعين خصوصية، ولما كان المتعارف في الأربعين الذي يقام للميت هو الدعاء له بالرحمة والمغفرة، وإهداء ما يتلى من آيات الله، ومن ذكر مصاب أهل البيت عليهم السلام ، وهي أمورٌ تعود بالنفع على الميت في آخرته وفي عالم البرزخ، كان عندها إقامة مجلس الأربعين أمراً محبذاً لا ضرر فيه بل فيه، الخير كله.

      4ـ مراسم الذكرى السنوية

      ورد في الرواية عن الإمام الصادق عليه السلام في الصحيح أنه قال:

      54

      "قال أبي الإمام الباقر عليه السلام : يا جعفر أوقف لي من مالي كذا وكذا لنوادب تندبني عشر سنين بمِنى أيام مِنى "18.

      ويذكر بعض العلماء تعليقاً على هذه الروايةلما نصه: "وقد يستفاد منه استحباب ذلك إذا كان المندوب ذا صفات تستحق النشر ليقتدى بها "19.

      وورد في الرواية عن الإمام الباقر عليه السلام قال: "كانت فاطمة صلوات الله عليها تزور قبر حمزة وتقوم عليه، وكانت في كل سنة، تأتي قبور الشهداء مع نسوة معها، فيدعينَ ويَسْتَغْفِرْنَ " 20.

      55

      الخاتمة
      إن الله تعالى أراد لنا أن نسير وفق إرادته، وهدي رسوله الكريم صلى الله عليه و آله والأئمة عليهم السلام ، وهذا معنى كوننا عباداً له سبحانه تعالى. ولأجل أننا كذلك، لا بد وأن نلتزم بكل ما أمرنا به من الواجبات, ونترك كل ما نهانا عنه من المحرمات, صيانة لعاقبتنا بالدرجة الأولى, وحرصاً منا على تقديم صورة المؤمن بأبهى أشكالها, في ممتحناتِ أتراحنا. نسأل الله تعالى أن يوفقنا جميعاً لحسن الالتزام بأمره والتأدب بآداب الدين, واجتناب ما يوجب سخطه، إنه سميعٌ مجيب. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الخلق محمد وآله الطاهرين.


      مركز نون للتأليف والترجمة

      هوامش

      1- مرتضى مطهري-شهيد يتحدّث عن الشهيد – ص 16
      2- البقرة:154
      3- الشيخ الكليني-الكافي- ج 5 ص 53
      4- م . ن. ج 5 ص 53
      5- م . ن. ج 5 ص 54
      6- الحر ّالعامليّ -وسائل الشيعة - ج 3 ص 283
      7- المجلسيّ-بحار الأنوار- ج 2 ص 15
      8- مرتضى المطهري - شهيد يتحدّث عن الشهيد- ص 49
      9- الريشهري - ميزان الحكمة - ج 4 ص 3675
      10- الشيخ الصدوق - من لا يحضره الفقيه - ج 1 ص 182
      11- م . ن. - ج 1 ص 183
      12- العلامة المجلسي - بحار الأنوار - ج 79 ص 71
      13- م. ن. ج 79 ص 71
      14- جعفر مرتضى- مختصر مفيد- ج 1 ص 226
      15- الشيخ الطبرسي -مكارم الأخلاق - ص 466
      16- جعفر بن محمّد بن قولويه -كامل الزيارات - ص 167
      17- الشيخ الكليني - الكافي - ج 8 ص 114
      18- الحرّ العاملي - وسائل الشيعة «آل البيت» - ج 17 ص 125
      19- الشيخ الجواهري -جواهر الكلام - ج 4 ص 366
      20- القاضي النعمان المغربي -دعائم الإسلام - ج 1 ص 239

      تعليق

      المحتوى السابق تم حفظه تلقائيا. استعادة أو إلغاء.
      حفظ-تلقائي
      x

      رجاء ادخل الستة أرقام أو الحروف الظاهرة في الصورة.

      صورة التسجيل تحديث الصورة

      اقرأ في منتديات يا حسين

      تقليص

      لا توجد نتائج تلبي هذه المعايير.

      يعمل...
      X